فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قُلْ أوحي إليّ أنّهُ اسْتمع نفرٌ مِن الْجِنِّ فقالوا إِنّا سمِعْنا قرآنا عجبا (1)}
افتتاح السورة بالأمر بالقول يشير إلى أن ما سيذكر بعده حدث غريب وخاصة بالنسبة للمشركين الذين هم مظنة التكذيب به كما يقتضيه قوله: {كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا} [الجن: 7] حسبما يأتي.
أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يُعلم المسلمين وغيرهم بأن الله أوحى إليه وقوع حدث عظيم في دعوته أقامه الله تكريما لنبيئه وتنويها بالقرآن وهو أن سخر بعضا من النوع المسمى جنّا لاستماع القرآن وألهمهم أو علّمهم فهم ما سمعوه واهتداءهم إلى مقدار إرشاده إلى الحق والتوحيد وتنزيه الله والإِيمان بالبعث والجزاء فكانت دعوة الإسلام في أصولها بالغة إلى عالم من العوالم المغيبة لا علاقة لموجوداته بالتكاليف ولا بالعقائد بل هو عالم مجبول أهله على ما جبلوا عليه من خير أو شر لا يعدُو أحدُهم في مدة الدنيا جِبلته فيكون على معيارها مصيرُه الأبدي في الحياة الآخرة ولذلك لم يبعث إليهم بشرائع.
وقد كشف الله لهذا الفريق منهم حقائق من عقيدة الإِسلام وهديه ففهموه.
هذا العالم هو عالم الجنّ وهو بحسب ما يستخلص من ظواهر القرآن ومن صحاح الأخبار النبوية وحسنها نوع من المجردات أعني الموجودات اللطيفة غير الكثيفة، الخفية عن حاسة البصر والسمع، منتشرة في أمكنة مجهولة ليست على سطح الأرض ولا في السماوات بل هي في أجواء غير محصورة وهي من مقولة الجوهر من الجواهر المجردات أي ليست أجساما ولا جسمانيات بل هي موجودات روحانية مخلوقة من عنصر ناري ولها حياة وإرادة وإدراك خاص بها لا يُدرى مداه.
وهذه المجردات النارية جنس من أجناس الجواهر تحتوي على الجن وعلى الشياطين فهما نوعان لجنس المجردات النارية لها إدراكات خاصة وتصرفات محدودة وهي مغيبة عن الأنظار ملحقة بعالم الغيب لا تراها الأبصار ولا تدركها أسماع الناس إلاّ إذا أوصل الله الشعور بحركاتها وإراداتها إلى البشر على وجه المعجزة خرقا للعادة لأمر قضاه الله وأراده.
وبتعاضد هذه الدلائل وتناصرها وإن كان كل واحد منها لا يعدو أنه ظني الدلالة وهي ظواهر القرآن، أو ظني المتن والدلالة وهي الأحاديث الصحيحة، حصل ما يقتضي الاعتقاد بوجود موجودات خفية تسمى الجن فتفسّر بذلك معاني آيات من القرآن وأخبار من السنة.
وليس ذلك مما يدخل في أصول عقيدة الإِسلام ولذلك لم نكفر منكري وجود موجودات معيّنة من هذا النوع إذ لم تثبت حقيقتها بأدلة قطعية، بخلاف حال من يقول: إن ذكر الجن لم يذكر في القرآن بعد عِلْمِه بآيات ذكره.
وأما ما يروى في الكتب من أخبار جزئية في ظهورهم للناس وإتيانهم بأعمال عجيبة فذلك من الروايات الخيالية.
وإنا لم نلق أحدا من أثبات العلماء الذين لقيناهم من يقول: إنه رأى أشكالهم أو آثارهم وما نجد تلك القصص إلاّ على ألسنة الذين يسرعون إلى التصديق بالأخبار أو تغلب عليهم التخيلات.
وإن كان فيهم من لا يتهم بالكذب ولكنه مما يضرب له مثل قول المعري:
ومثلُككِ من تخيل ثم خالا

فظهور الجن للنبي صلى الله عليه وسلم تارات كما في حديث الجني الذي تفلت ليفسد عليه صلاته هو من معجزاته مثل رؤيته الملائكة ورؤيته الجنة والنار في حائط القبلة وظهور الشيطان لأبي هريرة في حديث زكاة الفطر.
وقد مضى ذكر الجن عند قوله: {وجعلوا لله شركاء الجن} في سورة الأنعام (100)، وقوله: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس} في سورة الأعراف (179).
والذين أمر الرسول بأن يقول لهم أنه أوحي إليّه بخبر الجن: هم جميع الناس الذين كان النبي يبلغهم القرآن من المسلمين والمشركين أراد الله إبلاغهم هذا الخبر لما له من دلالة على شرف هذا الدين وشرف كتابه وشرف من جاء به، وفيه إدخال مسرة على المسلمين وتعريض بالمشركين إذ كان الجن قد أدركوا شرف القرآن وفهموا مقاصده وهم لا يعرفون لغته ولا يدركون بلاغته فأقبلوا عليه، والذين جاءهم بلسانهم وأدركوا خصائص بلاغته أنكروه وأعرضوا عنه.
وفي الإِخبار عن استماع الجن للقرآن بأنه أوحي إليّه ذلك إيماء إلى أنه ما علم بذلك إلاّ بإخبار الله إياه بوقوع هذا الاستماع، فالآية تقتضي أن الرسول لم يعلم بحضور الجن لاستماع القرآن قبل نزول هذه الآية.
وأما آية الأحقاف (29) {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن} الآيات فتذكير بما في هذه الآية أو هي إشارة إلى قصة أخرى رواها عبد الله بن مسعود وهي في صحيح مسلم في أحاديث القراءة في الصلوات ولا علاقة لها بهذه الآية.
وقوله: {أنه استمع نفر من الجن} في موضع نائب فاعل {أوحي} أي أوحي إليّ استماع نفر.
وتأكيد الخبر الموحى بحرف (أن) للاهتمام به لغرابته.
وضمير {أنه} ضمير الشأن وخبره جملة {استمع نفر من الجن} وفي ذلك زيادة اهتمام بالخبر الموحى به.
ومفعول {استمع} محذوف دل عليه {إنّا سمعنا قرآنا}، أي استمع القرآن نفر من الجن.
والنفر: الجماعة من واحد إلى عشرة وأصله في اللغة لجماعة من البشر فأطلق على جماعة من الجن على وجه التشبيه إذ ليس في اللغة لفظ آخر كما أطلق رجال في قوله: {يعوذون برجال من الجن} [الجن: 6] على شخوص الجن.
وقولهم: {إنا سمعنا قرآنا عجبا} قالوه لبعض منهم لم يحضر لاستماع القرآن ألهمهم الله أن ينذروهم ويرشدوهم إلى الصلاح قال تعالى في سورة الأحقاف (29، 30) {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولّوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا} الآيات.
ومعنى القول هنا: إبلاغُ مرادهم إلى من يريدون أن يبلِّغوه إليهم من نوعهم بالكيفية التي يتفاهمون بها، إذ ليس للجن ألفاظ تجري على الألسن فيما يظهر، فالقول هنا مستعار للتعبير عما في النفس مثل قوله تعالى: {قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} [النمل: 18] فيكون ذلك تكريما لهذا الدِّين أن جعل الله له دعاة من الثقلين.
ويجوز أن يكون قولا نفسيا، أي خواطر جالت في مدركاتهم جولان القول الذي ينبعث عن إرادةِ صاحب الإِدراك به إبلاغ مدركاته لغيره، فإن مثل ذلك يعبر عنه بالقول كما في بيت النابغة يتحدث عن كلب صيد:
قالتْ له النفسُ إني لا أرى طمعا ** وإن مولاك لم يسلم ولم يصِد

ومنه قوله تعالى: {ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول} [المجادلة: 8].
وتأكيد الخبر بـ (أنّ) لأنهم أخبروا به فريقا منهم يشكون في وقوعه فأتوا في كلامهم بما يفيد تحقيق ما قالوه وهو الذي يعبر عن مثله في العربية بحرف (إن).
ووصف القرآن بالعجب وصف بالمصدر للمبالغة في قوة المعنى، أي يعجب منه، ومعنى ذلك أنه بديع فائق في مفاده.
وقد حصل لهم العلم بمزايا القرآن بانكشاف وهبهم الله إياه.
قال المازري في (شرح صحيح مسلم): (لابد لمن آمن عند سماع القرآن أن يعلم حقيقة الإِعجاز وشروط المعجزة، وبعد ذلك يقع العلم بصدق الرسول؛ فإما أن يكون الجن قد علموا ذلك أو علِموا من كتب الرسل المتقدمة ما دلهم على أنه هو النبي الأمّي الصادق المبشر به). اهـ.
وأنا أقول: حصل للجن علم جديد بذلك بإلهام من الله لأدلة كانوا لا يشعرون بها إذ لم يكونوا مطالبين بمعرفتها، وأن فهمهم للقرآن من قبيل الإِلهام خلقه الله فيهم على وجه خرق العادة كرامة للرسول صلى الله عليه وسلم وللقرآن.
والإِيمان بالقرآن يقتضي الإِيمان بمن جاء به وبمن أنزله ولذلك قالوا: {ولن نشرك بربنا أحدا}.
وقد حصل لهؤلاء النفر من الجن شرف المعرفة بالله وصفاته وصِدق رسوله وصدق القرآن وما احتوى عليه ما سمعوه منه فصاروا من خيرة المخلوقات، وأُكرموا بالفوز في الحياة الآخرة فلم يكونوا ممن ذرْأ الله لجهنم من الجن والإِنس.
ومتعلق (استمع) محذوف دل عليه قوله بعده {فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا}.
و{الرشْد}: بضم الراء وسكون الشين (أو يقال بفتح الراء وفتح الشين) هو الخير والصواب والهدى.
واتفقت القراءات العشر على قراءته بضم فسكون.
وقولهم: {ولن نشرك بربنا أحدا} أي ينتفي ذلك في المستقبل.
وهذا يقتضي أنهم كانوا مشركين ولذلك أكدوا نفي الإِشراك بحرف التأبيد فكما أكد خبرهم عن القرآن والثناء عليه بـ (إن) أكد خبرهم عن إقلاعهم عن الإِشراك بـ {لن}.
{وأنّهُ تعالى جدُّ ربِّنا ما اتّخذ صاحِبة ولا ولدا (3)}
هذا محكي عن كلام الجن، قرأه الجمهور بكسر همزة {إنه} على اعتباره معطوفا على قولهم: {إنّا سمعنا قرآنا عجبا} [الجن: 1] إذ يجب كسر همزة (إنّ) إذا حكيت بالقول.
وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر وخلف بفتح الهمزة على أنه معطوف على الضمير المجرور بالباء في قوله: {فآمنّا به} [الجن: 2] أي وآمنا بأنه تعالى جد ربنا.
وعدم إعادة الجار مع المعطوف على المجرور بالحرف مستعمل، وجوزه الكوفيون، على أن حرف الجر كثير حذفه مع (أنّ) فلا ينبغي أن يختلف في حذفه هنا على هذا التأويل.
قال في (الكشاف): {أنه استمع} [الجن: 1] بالفتح لأنه فاعل أوحي (أي نائب الفاعل) {وإنّا سمِعنا} بالكسر لأنه مبتدأ محكي بعد القول ثم تحمل عليهما البواقي فما كان من الوحي فُتح وما كان من قول الجن كُسر، وكُلّهن من قولهم، إلاّ الثنتين الأخريين: {وأن المساجد لله} [الجن: 18]، {وأنه لما قام عبد الله} [الجن: 19] ومن فتح كُلهن فعطفا على محل الجار والمجرور في {ءامنا به} [الجن: 2] كأنه قيل: صدقناه وصدقنا أنه تعالى جدّ ربنا، وأنه كان يقول سفيهنا، وكذلك البواقي اهـ.
والتعالي: شدة العلوّ، جعل شديد العلوّ كالمتكلف العلوّ لخروج علوّه عن غالب ما تعارفه الناس فأشبه التكلُف.
والجدّ: بفتح الجيم العظمة والجلال، وهذا تمهيد وتوطئة لقوله: {ما اتخذ صاحبة ولا ولدا}، لأن اتخاذ الصاحبة للافتقار إليها لأنسها وعونها والالتذاذ بصحبتها، وكل ذلك من آثار الاحتياج، والله تعالى الغني المطلق، وتعالى جدّه بغناه المطلق، والولد يرغب فيه للاستعانة والأنس به، مع ما يقتضيه من انفصاله من أجزاء والديه وكل ذلك من الافتقار والانتقاص.
وضمير {إنه} ضمير شأن وخبره جملة {تعالى جد ربنا}.
وجملة {ما اتخذ صاحبة} إلى آخرها بدل اشتمال من جملة {تعالى جد ربنا}.
وتأكيد الخبر بـ (إن) سواء كانت مكسورة أو مفتوحة لأنه مسوق إلى فريق يعتقدون خلاف ذلك من الجن.
والاقتصار في بيان تعالى جدِ الله على انتفاء الصاحبة عنه والولد ينبئ بأنه كان شائعا في علم الجن ما كان يعتقده المشركون أن الملائكة بنات الله من سروات الجن وما اعتقاد المشركين إلاّ ناشئ عن تلقين الشيطان وهو من الجن، ولأن ذلك مما سمعوه من القرآن مثل قوله تعالى: {سبحانه أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} في سورة الأنعام (101).
وإعادة {لا} النافية مع المعطوف للتأكيد للدلالة على أن المعطوف منفي باستقلاله لدفع توهم نفي المجموع.
وضمير الجماعة في قوله: {ربنا} عائد إلى كل متكلم مع تشريك غيره، فعلى تقدير أنه من كلام الجن فهو قول كل واحد منهم عن نفسه ومن معه من بقية النفر.
{وأنّهُ كان يقول سفِيهُنا على اللّهِ شططا (4)}
قرأه الجمهور بكسرة همزة {وإنه}.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر وخلف بفتح الهمزة كما تقدم في قوله: {وأنه تعالى جدّ ربنا} [الجن: 3] فقد يكون إيمانهم بتعالي الله عن أن يتخذ صاحبة وولدا ناشئا على ما سمعوه من القرآن وقد يكون ناشئا على إدراكهم ذلك بأدلة نظرية.
والسفيه: هنا جنس، وقيل: أرادوا به إبليس، أي كان يلقنهم صفات الله بما لا يليق بجلاله، أي كانوا يقولون على الله شططا قبل نزول القرآن بتسفيههم في ذلك.
والشطط: مجاوزة الحد وما يخرج عن العدل والصواب، وتقدم في قوله تعالى: {ولا تشطط} في سورة ص (22).
والمراد بالشطط إثبات ما نفاه قوله: {ولن نشرك بربنا أحدا} [الجن: 2] وقوله: {ما اتخذ صاحبة ولا ولدا} [الجن: 3] وضمير {وإنه} ضمير الشأن.
والقول فيه وفي التأكيد بـ (إن) مكسورة أو مفتوحة كالقول في قوله: {وإنه تعالى جد ربنا} [الجن: 3] إلخ. اهـ.